فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {بمقعدهم خلاف رسول الله} قال: عن غزوة تبوك.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في الآية قال: يعني المتخلفون بأن قعدوا خلاف رسول الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غزوة الحر.
قالوا: لا تنفروا في الحر، وهي غزوة العسرة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف. فقال رجال: يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر. فقال الله: {قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون} فأمره بالخروج».
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {لا تنفروا في الحر} قال: قول المنافقين يوم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحر. فأنزل الله: {قل نار جهنم أشد حرًا...} الآية.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: استدار برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من المنافقين حين أذن للجد بن قيس ليستأذنوه ويقولوا: يا رسول الله ائذن لنا فإنا لا نستطيع أن ننفر في الحر، فأذن لهم واعرض عنهم. فأنزل الله: {قل نار جهنم أشد حرًا...} الآية. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
قوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ}: متعلقٌ بفرح، وهو يصلح لمصدر قعد وزمانِه ومكانِه، والمرادُ به هاهنا المصدرُ، أي: بقعودهم وإقامتها بالمدينة.
قوله: {خِلاَفَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله: {مَقْعدهم}، لأنه في معنى تخلَّفوا، أي: تخلفوا خلاف رسول الله. الثاني: أنَّ {خلاف} مفعولٌ من أجله، والعامل فيه: إمَّا فرح، وإما مَقْعد، أي: فَرِحوا لأجل مخالفتهم رسول الله حيث مضى هو للجهاد وتَخَلَّفوا هم عنه، أو بقعودِهم لمخالفَتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج ومؤرِّج، ويؤيد ذلك قراءةُ منْ قرأ {خُلْف} بضم الخاءِ وسكون اللام، والثالث: أنْ ينتصب على الظرف، أي: بعد رسول الله. يُقال: أقام زيد خلاف القوم، أي: تخلف بعد ذهابهم، و{خلافَ} يكون ظرفًا قال:
عَقَبَ الربيعُ خِلافَهُمْ فكأنما ** بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهن حصيرا

وقال الآخر:
فقلْ للذي يَبْقى خِلاَفَ الذي مضى ** تَهَيَّأْ لأخرى مِثلها وكأنْ قَدِ

وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة وعمرو بن ميمون {خَلْفَ} بفتح الخاء وسكون اللام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)}
استحوذ عليهم سرورُهم بتخلفهم، ولم يعلموا أن ثبورَهم في تأخرهم وما آثروه من راحة نفوسهم على أداء حق الله، والخروج في صحبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فنزع الله الراحةَ بما عاقَبَهم، وسَيَصْلَوْنَ سعيرًا في الآخرة بما قدَّموه من نفاقهم، وسوف يتحسَّرُون ولات حينَ تحسُّر. اهـ.

.تفسير الآية رقم (82):

قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان غاية السرور الضحك، وكان اللازم لهم في الآخرة البكاء في دار الشقاء الذي هو غاية الحزن لهم، فيها زفير وشهيق وهم يصطرخون فيها، قال تعالى مهددًا لهم مسببًا عن قبيح ما ذكر من فعلهم مخبرًا في صورة الأمر إيذانًا بأنه أمر لابد من وقوعه: {فليضحكوا قليلًا} أي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك- يسيرًا، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال {وليبكوا كثيرًا} أي في نار جهنم التي أغفلوا ذكر حرورها وأهملوا الاتقاء من شديد سعيرها بدل ذلك الضحك القليل كما استبدلوا حرها العظيم بحر الشمس الحقير {جزاء بما كانوا يكسبون} أي من الفرح بالمعاصي والسرور بالشهوات والانهماك في اللذات. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، والدليل عليه قوله بعد ذلك: {جَزاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ومعنى الآية أنهم، وإن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم، فهذا قليل لأن الدنيا بأسرها قليلة، وأما حزنهم وبكاؤهم في الآخرة فكثير، لأنه عقاب دائم لا ينقطع، والمنقطع بالنسبة إلى الدائم قليل، فلهذا المعنى قال: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} قال الزجاج: قوله: {جَزَاء} مفعول له، والمعنى وليبكوا لهذا الغرض.
وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي في الدنيا من النفاق واستدلال المعتزلة بهذه الآية على كون العبد موجدًا لأفعاله، وعلى أنه تعالى لو أوصل الضرر إليهم ابتداء لا بواسطة كسبهم لكان ظالمًا، مشهور، وقد تقدم الرد عليهم قبل ذلك مرارًا تغني عن الإعادة. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم قال عز وجل: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا} اللفظ لفظ الأمر والمراد به التوبيخ.
قال الحسن: يعني: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا} في الدنيا، {وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} في الآخرة في النار.
{جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، يعني: عقوبة لهم بما كانوا يكفرون.
وعن أبي رزين أنه قال في قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} قال: يقول الله تعالى: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا: فإذا صاروا إلى النار بكوا بكاءً لا ينقطع فذلك الكثير.
وروى الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي عامر، عن عمرو بن شرحبيل قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من قريش، وفيهم أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بني عبد مناف.
فقال عتبة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك؟ فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليهم وقال: «أمَّا أنْتَ يا عُتْبَةُ، فَلَمْ تَغْضَبْ لله وَلا لِرَسُولِهِ، وَإنَّمَا غَضِبْتَ لِلأصْلِ، وَأمَّا أنْتَ يَا أبَا جَهْلٍ، فَوَالله لا يَأْتِي عَلَيْكَ إلاَّ غَيْرُ كَثِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى تَبْكِيَ كَثِيرًا وَتَضْحَكَ قَلِيلًا، وَأمَّا أنْتُمْ يَا مَلأَ قُرَيْشٍ، فَوَالله لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ إلاَّ غَيْرُ كَثِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ، حَتَّى تَدْخُلُوا فِي هذا الأمْرِ الَّذِي تُنْكِرُونَ طَائِعِينَ أوْ كَارِهِينَ».
قال: فسكتوا كأنما ذرّ على رؤوسهم التراب، فلم يردوا عليه شيئًا.
وروى أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُرْسِلُ الله تَعَالَى البُكَاءَ عَلَى أهْلِ النَّارِ، فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَتَّى يُرَى فِي وُجُوهِهِمْ كَهَيْئَةِ الأخْدُودِ». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا} هذا تهديد وإن خرج مخرج الأمر، وفي قلة ضحكهم وجهان:
أحدهما: أن الضحك في الدنيا لكثرة حزنها وهمومها قليل، وضحكهم فيها أقل لما يتوجه إليهم من الوعيد.
الثاني: أن الضحك في الدنيا وإن دام إلى الموت قليل، لأن الفاني قليل.
{وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} فيه وجهان:
أحدهما: في الآخرة لأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة، وهم فيه يبكون، فصار بكاؤهم كثيرًا، وهذا معنى قول الربيع بن خيثم.
الثاني: في النار على التأبيد لأنهم إذا مسهم العذاب بكوا من ألمه، وهذا قول السدي.
ويحتمل أن يريد بالضحك السرور، وبالبكاء الغم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {فليضحكوا قليلًا} إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله: {وليبكوا كثيرًا} إِشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم، ويحتمل أن يكون صفة حالهم أي هم لما هم عليه من الخطر مع الله، وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلًا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرًا، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا على نحو قوله صلى الله عليه وسلم، لأمته «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا».
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال هذا الكلام أوحى الله إليه يا محمد لا تقنط عبادي، و{جزاء} متعلق بالمعنى الذي تقديره {وليبكوا كثيرًا} إذ هم معذبون {جزاء}، وقوله: {يكسبون} نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فليضحكوا قليلًا} لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد.
وفي قلَّة ضحكهم وجهان.
أحدهما: أن الضحك في الدنيا، لكثرة حزنها وهمومها، قليل، وضحكهم فيها أقل، لِما يتوجه إليهم من الوعيد.
والثاني: أنهم إنما يضحكون في الدنيا، وبقاؤها قليل.
{وليبكوا كثيرًا} في الآخرة.
قال أبو موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أُجريت السفن في دموعهم لجرت، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع، فلمثل ما هم فيه فليُبكي.
قوله تعالى: {جزاءً بما كانوا يكسبون} أي: من النفاق والمعاصي. اهـ.

.قال القرطبي:

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
فيه مسألتان:
الأولى قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا} أمرٌ، معناه معنى التهديد وليس أمرًا بالضحك.
والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها.
قال الحسن: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا} في الدُّنْيَا {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} في جهنم.
وقيل: هو أمر بمعنى الخبر.
أي إنهم سيضحكون قليلًا ويبكون كثيرًا.
{جَزَاءً} مفعول من أجله؛ أي للجزاء.
الثانية من الناس من كان لا يضحك اهتمامًا بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدّة الخوف، وإن كان عبدًا صالحًا.
قال صلى الله عليه وسلم: «والله لو تعلمون ماأعلم لضحِكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله تعالى لوِددت أني كنت شجرة تُعْضَد» خرجه الترمذيّ.
وكان الحسن البصريّ رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك.
وكان ابن سِيريِن يضحك ويحتجّ على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى.
وكان الصحابة يضحكون؛ إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهيّ عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة.
وفي الخبر: «أن كثرته تميت القلب» وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدّة عقابه فمحمود؛ قال عليه السلام: «ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سُفُنًا أجريت فيها لجرت» خرّجه ابن المبارك من حديث أنس، وابن ماجه أيضًا. اهـ.